تحاول تركيا جاهدة في هذه الأيام التعامل مع تبعات الانقلاب الذي فشل في منتصف شهر تموز الماضي، بعد أن تضافرت جهود الحكومة والشعب خلال 6 ساعات كانت كفيلة بوضع حد لمحاولة الجيش السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد.
وعلى الرغم من اتساع رقعة المشاركة في اعمال العنف التي راح ضحيتها ما يزيد عن 500 مدني، فإن حكومة حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الحاكم، شرعت في تنفيذ سلسلة من الإجراءات المضادة، لتعزيز الديمقراطية وقطع الطريق أمام أي محاولات مستقبلية بحسب ما صرح به المسؤولين الأتراك. تلك الإجراءات لم ترق لجهات كثيرة داخلية وخارجية، فقالت الأحزاب الكردية انها المستهدف الأول، بينما أبدت دول الاتحاد الأوروبي تحفظها على تراجع مستوى الحريات في تركيا، ومدى تناغم تصرفات الحكومة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
لقد شهدت علاقات البلاد الخارجية توترات كبيرة لم تحسم بعد مع أقرب الحلفاء والأصدقاء، خاصة مع اتهام الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الجهود الانقلابية عبر إيواء فتح الله غولن، وانتقاد تركيا من جهة ثانية لدول الاتحاد الأوروبي التي تأخرت في التعبير عن موقفها من دعم شرعية حكومة الرئيس رجب طيب اردوغان خلال ساعات الانقلاب الأولى.
بالطبع ستصرف قيمة هذا التوتر الكبير بشكل أساسي في ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، ذلك الموضوع القديم الجديد، فعلى مدار أكثر من 58 سنة سعت الحكومات التركية المتعاقبة لدخول الاتحاد كان أخرها محاولة عام 2005.
حين فاوضت حكومة حزب العدالة والتنمية أعضاء الاتحاد الأوروبي لضم تركيا بشكل كامل للاتحاد، ولكن العضوية الدائمة والكاملة داخل الاتحاد لم ترَ ثمارها بعد، رغم أن تركيا قد أبدت نجاحاً والتزاماً في جميع المجالات التي كلفت بها من قبل الاتحاد الأوربي، الذي لم يظهر رغبة جدية لضم البلد المسلم.
كيف تبدو علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي؟
لعبت مجموعة من التغييرات السياسية في الآونة الأخيرة دورًا في إرجاء قضية الانضمام، كان أبرزها قضة اللاجئين السوريين الذين آوتهم تركيا في أراضيها، حيث أدى هذا الأمر إلى زيادة الضغوط على القارة الأوروبية، الأمر الذي دفع نحو اتخاذ محاولات لردع المهاجرين عن خوض رحلة البحر المتوسط، فوقعت أوروبا على صفقة سمحت فيها للاتحاد الأوربي بإعادة القادمين إلى اليونان بالطريقة غير شرعية إلى تركيا، مقابل حصول تركيا على المساعدات المالية، والترخيص بالسفر إلى أوربا من دون تأشيرة لمواطنيها، وأيضاً تحديث مفاوضات انضمامها للاتحاد الأوروبي.
إلا أن صدمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان لها الأثر الأكبر على قضية الانضمام، خاصة أن بريطانيا كانت إحدى الداعمين الأساسيين لتركيا ومغادرتها سيفقد تركيا حليفا مهما في القضية.
تمتلك تركيا مجموعة من العناصر القوية في ملفها التفاوضي، أولها القرب من الاتحاد الأوروبي والوجود الجغرافي والديموغرافي لتركيا داخل القارة الأوربية، ولعل قوة الاقتصاد التركي المثيرة للاهتمام من أكثر نقاط الجذب كما النبذ في آن معًا، فالبلاد حققت نقلة نوعية في قوة الاقتصاد تجاوزت فيه مع حكومة العدالة والتنمية تسعة أضعاف نسبة النمو قبل وصل الإسلاميين للسلطة.
إلا أن الفروق الثقافية بين الهوية التركية والأوربية، واختلاف سياسة تركيا الخارجية مع بعض سياسات الدول الأوربية. واتباع الاتحاد مع تركيا نهج إسلاموفوبيا ونظرته السلبية لها على أنها دولة إسلامية قد تؤثر على تقدم أوربا وتطورها يتصدر أسباب المماطلة الأوروبية.
وبالعودة إلى العوامل الاقتصادية فإن قوة الاقتصاد التركي جعلته منافساً لأوروبا، مما يجعل الأخيرة تخشى من زيادة قوة الاقتصاد التركي وقوة منافسته إذا انضمت تركيا إليها، ولا يقل تأثير هذه الأسباب على العلاقات التركية الأوربية عن تأثيرها على العلاقات مع الولايات المتحدة من جانب آخر، بالإضافة إلى الأزمة السورية التي أثرت بشكل كبير على العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة.
واشنطن وأنقرة العلاقة الضرورية.
نشرت مجلة أتلانتك دراسة تناولت السياسة الخارجية للرئيس أوباما، والتي لخص فيها الصحفي الأمريكي جيفري غولدبرغ أن أوباما قد اعتبر الرئيس التركي أردوغان في البداية رئيساً معتدلاً يمكنه أن يشكل جسراً بين الشرق والغرب، إلا أنه أحبط التوقعات ورفض استخدام جيشه الضخم لتحقيق الاستقرار في سوريا، حيث أن الأزمة السورية وتدفق اللاجئين إلى أوربا عبر تركيا قد شكّلا عقبة كبيرة في طريق استعادة أنقرة لأشهر العسل والتناغم مع واشنطن.
فضلاً عن الاختلافات العديدة بينهما، والناجمة عن انحراف الأوضاع الداخلية التركية بعد الانقلاب، وموضوع الأزمة السورية ودور الميليشيات الكردية في القتال ضد “تنظيم الدولة” وهو الأمر الذي بلور التوتر التركي الأمريكي.
وازداد التوتر لدرجة غير مسبوقة عقب رفض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولن السياسي ورجل الدين التركي المقيم على أراضيها، والذي تتهمه أنقرة بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الأخيرة عبر منظمته المسماة ” الخدمة “. ومع تطور الأحداث ظهرت أصوات في الولايات المتحدة الأمريكية تطالب بقطع العلاقات مع تركيا، على اعتبار أن الأخيرة انحرفت عن القيم والمبادئ الأمريكية، في مجال الحريات وحقوق الأنسان.
إلا أن الأهمية الاستراتيجية الكبيرة التي تحظى بها تركيا، تجعل من تلك الأصوات هتافات عابرة لا قيمة لها، تصدر عن اشخاص يغادرون مناصبهم مع انتهاء ولاية الإدارة الأمريكية الحالية. السر في أهمية تركيا هو توسطها الشرق والغرب، فضلًا عن حدودها الطويلة الممتدة مع كل من سوريا والعراق، ما جعل منها مكاناً مثالياً لاستخدام القواعد الجوية التركية، في مساعدة أمريكا للحرب على الإرهاب، مقابل أن تغض الولايات المتحدة الطرف عن الضربات التركية على مواقع الأكراد، التي تمثل محاربتهم الأولوية الأكثر أهمية بالنسبة لأنقرة حاليًا.
عضوية الناتو ثابتة
تعتبرتركيا عضواً قديماً في الناتو وحليفاً تاريخياً للغرب منذ عام 1952، وهي الدولة ذات الموقع الاستراتيجي المميز في المنطقة، كما أن الأرض التركية هي مكان تمر عبره أنابيب الغاز والنفط المتوجهة إلى أوروبا، هذه الأسباب وغيرها تجعل من البلاد قوة لا يمكن الاستغناء عنها مهما كانت الدوافع والمبررات المرحلية.
ولكن بعد محاولة الانقلاب وضعت علاقة التحالف تحت المجهر، على اعتبار أن البلاد غير مستقرة، وتعاني الاضطرابات السياسية والعسكرية، وأنه من غير المحبب بقاء قواعد أمريكية تحوي ما يزيد عن 40 صاروخ نووي قصير المدى في البلاد، ما دفع المسؤولين الأتراك للرد بطريقة غاضبة، مذكرين باستمرار عضوية اليونان في الحلف الأطلسي حتى مع وجود مجلس عسكري يحكم غريمتها التقليدية اثينا في السابق.
وبعد فشل زيارة نائب الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى تركيا ورفض الأخيرة فتح قاعدة” انجرليك” الجوية لطائرات التحالف الدولي التي تشن هجمات جوية على مواقع لتنظيم الدولة في كلٍ من العراق وسوريا، أثيرت مجموعة من التساؤلات حول مستقبل عضوية تركية في منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وبدأت عدة دول أوروبية توجيه اللوم لعدم اكتراث تركيا بالمطالب الأمريكية ووقوفها على الحياد السلبي بحسب وجهة نظر الأوروبيين.
ليأتي الرد التركي على ذلك، بالقول إن حلف الناتو غير معني بالقتال ضد تنظيم الدولة وهو بحسب الميثاق الرسمي مكلف فقط بالدفاع عن تركيا ضد التهديدات والأخطار المحتملة عليها وبطلب من الحكومة التركية، ولا ترى تركيا في التنظيم أي خطر يهدد سلامة أمنها، وعليه فإن الحلف يقف متفرجاً، لحين طلب تركيا منه رسمياً التدخل.
يقول خبراء عسكريون أوروبيون، إن إنكار الدور التركي الطويل في الحلف ، فيه إجحاف بحق الجانب التركي، ويشكل مثالاً سيئاً عن ضرب الغرب لحلفائه في آسيا مستقبلاً، وبالتالي يجب التوقف عن ذلك خاصة مع تعاظم التهديدات الصينية والروسية المحتملة تجاه الولايات المتحدة والغرب.
يذكر أن منظمة حلف “الناتو” قد تأسست عام 1949 بناءً على معاهدة شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في واشنطن، ومقرها في بروكسل، وتهدف إلى حماية حرية الدول الأعضاء من خلال القوة العسكرية، حيث تقوم جميع الدول الأعضاء فيه بالمساهمة في القوى والمعدات العسكرية، مما ساهم في تحقيق تنظيم عسكري لهذا الحلف يلعب دوره من خلال الأزمات السياسية.