يبدو أن المستقبل يسير قادمًا إلينا بسرعة تفوق ما كنا نتوقع، وقريبًا جدًا سنرى تغيرات ضخمة في أكثر الأمور حساسية في حياتنا والتي يحتاجها الجميع بشدة، ألا وهي وسائل المواصلات العامة. فبعد مجموعة من الابتكارات المهمة في هذا المجال، تفسح وسائل الإعلام المجال، اليوم، للحديث عن الباص الصيني العملاق، آخر ما كشفت عنه البلاد التي تضم ما يزيد من مليار إنسان يعيشون في أراضيها.
كان اختراع المحركات الميكانيكي الخطوة الأولى في مشروع المواصلات الحديثة، ثم انتقلت جموع البشر للاعتماد على المركبات الخاصة والعامة كوسائط للنقل، قبل أن تظهر مؤخرًا السيارات والحافلات ذاتية القيادة لتضيف إمكانية جديدة لتطور قطاع المواصلات، حجر الزاوية الأساس في تطور الدول ونمو اقتصاداتها.
نشرت وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) في الأيام الماضية خبرًا عن باص لنقل الركاب من نمط خاص، حيث دخل مشروع الباص الجديد في طور تجارب الأداء المركزة ضمن شوارع مدينة تشينهوانغداو بمقاطعة خبي الصينية. وافترضت الوكالة أن هذا الإنجاز الهندسي المبتكر، سيكون الكأس المقدس التي تحمل معها حلول هامة لمشاكل الاختناقات المرورية والضغوطات التي تتعرض لها وسائط النقل العامة في عموم المدن ذات الكثافة السكانية العالية.
جرت التجارب الأولية لتسير رحلة الباص الذي يشبه وحشَا فضائيًا له أرجل منفرجة، في طريق بطول 300 متر في شمال شرق المدينة الصينية، ودفع نجاح التجربة بعدد كبير من المدونين لإغراق مواقع التدوين الأشهر في الصين بآلاف من الرسائل والتغريدات المشجعة للفكرة والمتحمسة لها.
وخلال ساعات قليلة ظهرت مشاركات، على شبكة التواصل الاجتماعية “ويبو” والتي يمكن اعتباره موقع تويتر الصيني، من الأشخاص الذين رافقوا الحافلة العملاقة في رحلتها الأولى، مع بعض الصور والفيديوهات من داخل وخارج الباص العملاق. لتكشف جزء من أسرار التجربة.
كان اختبار آلية الحركة ونظام المكابح للعربة العملاقة محوريًا لضمان فاعليتها وملاءمتها لقوانين السلامة المرورية، خاصة أن الباص العملاق يسمح بمرور السيارات من تحته خلال مسيره. قد تبدو الفكرة مجنونة أو لربما يصعب تخيلها لكنها بالفعل وضعت موضع التنفيذ بعد أن بقيت لسنوات سابقة مجرد رسوم على الورق.
الطريقة الجديدة تعتمد على مبدأ النقل الجماعي بتكاليف منخفضة، لذلك تجد أن الباص يستند على الكهرباء كمصدر للطاقة خلال عمله، وبذلك يضيف بعدًا بيئيًا للمشروع.
لطالما حاولت الحكومات ترشيد استهلاك الوقود، وهو الأمر الذي يستهلك جزء كبير من أموال الدول، خاصة تلك التي لا تمتلك مصادر للطاقة مثل حقول النفط أو الغاز. لهذا لجأت الحكومات لتحرير أسعار المحروقات بشكل يسمح للمستهلك باستشعار قيمة الاستهلاك، وأثره على الدخل الشخصي أولًا قبل النظر إلى اجمالي الإنفاق القومي على حوامل الطاقة.
وفي بلد مثل الصين، ثاني أكبر مستهلك للنفط بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ستكون المشروعات المماثلة طوق النجاة من محرقة أسعار الوقود واستنزافها لموارد الخزينة في البلاد.
هل سيتحول الباص الصيني العملاق لبديل عن شبكة الميترو؟
ظهرت فكرة “الباص العملاق” لأول مرة عام 2009 عندما قدمت شركة تكنولوجيا صينية تصاميمها في معرض بكين الدولي للتكنولوجيا الفائقة في دورته التاسعة عشر، في تلك الأوقات اعتبرت وسائل الإعلام الغربية أن الفكرة لا تتعدى كونها دعاية للصين أكثر من كونها مبادرة مجدية، وعليه لم تحظى بالاهتمام الكافي. وبعد سنة واحدة صنعت نفس الشركة نموذجًا مصغرًا عن مشروعها ووعدت أن تدخل أول نسخة حيز الاختبار في الأعوام القادمة.
اعتمدت الشركة الصينية على مفهوم النقل بالحافلات المرتفعة أو ما يعرف بالإنكليزية Transit Elevated Bus concept (TEB) ولتبسيط الأمور سنتخيل ان المركبات من هذا النمط تشبه الصرصار ذو الأرجل النحيلة. يبقى الجسم مرتفعًا عن مستوى الأرض وتشغل الأطراف التي يستند عليها حيز بسيط جدًا من المكان تحته.
بهذه الشكل ظهر” الباص العملاق ” منذ أسبوع تقريبًا ليشبه جزء من جسر عملاق يطفو فوق الشارع، يفسح المجال للمرور من تحت جسمه الذي يقل الركاب. يتحرك الباص عبر مجموعة من القضبان الحديدية المثبتة على طرفي الطريق، وتغذي الكهرباء محركاته الكبيرة.
ونقلت وكالة الأنباء الصينية عن المهندسين المشرفين على المشروع أن اعتماد هذه الطريقة في المواصلات العامة، من شأنه أن يخفف من الازدحام المروري بنسبة 30 بالمائة. حيث تنقل مقصورة الباص الواحد ما يصل إلى 300 راكب على متنها وتسير بهم بسرعة تصل إلى 60 كلم في الساعة.
يمتلك الباص العملاق إمكانية توسيع سعة النقل، حيث صمم بطريقة تسمح بتوصيل أربعة باصات مع بعضهم لتصل القدرة الكلية على النقل إلى 1400 راكب، ما يظهر منافسة تلوح في الأفق بينه وبين شبكة قطارات الميترو، وهو ما أشار إليه كبير المهندسين في المشروع سونغ يوزهو في حديثه للتلفزيون الصيني.
وأضاف المهندس أن للباص العملاق نفس الميزات التي يمتلكها قطار الأنفاق (الميترو) “لكن تكلفة الإنشاء أقل بحوالي الخمس” كما أن الحركة والسرعة أكثر انسيابية بفضل التصميم الهندسي الثوري والبينة التحتية البسيطة.
يساعد انفراج جسم القطار في السماح للسيارات بالمرور من تحته سواء كان يتحرك أو في حالة التوقف، فهذه العبارة المرتفعة تحلق بالركاب فوق شوارع المدينة بكامل طولها الذي يبلغ 21.3 مترًا وبعرض 8 أمتار تقريبًا وارتفاع 5 أمتار.
أما على صعيد الجدوى الاقتصادية فتستطيع هذه الحافة توفير ما يقارب 800 طن من الوقود وهي مجموع استهلاك 40 باص من النوع التقليدي بحسب ما نقلت صحيفة الديلي تلغراف.
تصميم داخلي عصري
تم تصميم مقاعد الجلوس على طول جانبي الحافلة مع توزيع بعض الكراسي في منتصف المساحة الواسعة التي تبلغ 8 أمتار، كما توزعت عواميد للمساعدة في وقوف الركاب على إجمالي المساحة الداخلية مع وجود درابزين معلقة تهبط من السقف أيضًا. وترك المصممون مناطق خاصة لركوب النساء والأطفال وأصحاب الاحتياجات الخاصة.
دائمًا ما كان الانتقال إلى المستقبل مباغتًا خاصة عند ظهور الأفكار المبتكرة، لكن حجم الاقبال والحماس على هذا المشروع قد يشير إلى التغيرات البطيئة المؤكدة، فلو كتب لهذه التجارب النجاح سنكون أمام فرص استثمارية جديدة في قطاع النقل والمواصلات، وفي محيطه أيضًا خاصة الشركات تقدم الدعم اللوجستي لهذه الصناعة، مما سينعكس على ارتفاع أسهمها والاقبال على تداولها في البورصات العالمية.
لا نستطيع أن ننكر أن الأثر البيئي سيكون ملحوظًا في نفس الوقت، فنسب الانبعاثات الغازية تستمر في الصعود في كل مكان من الكوكب، وتمتلك الصين واقتصادها كمية مهمة من الإسهام في هذه المخاطر، وحلول من هذا النمط قد تكون ضرورية للحد من تلوث البيئة، وقد يتعدى الأمر أيضًا لنصل إلى تغيرات جوهرية في أسواق النفط ومشتقاته اذا ما انخفض الطلب على وقود الديزل أو حتى البنزين.
يبقى أن نشير أن الشركة المصنعة للباص لم تكشف عن الموعد النهائي لوضع هذا المنتج في الأسواق، واستغلاله تجاريًا في حين أشارت بعض وسائل الإعلام أن موعد ظهور هذا الباص العملاق سيكون في ربيع العام المقبل.